الحرية - يوسف الخال
1
                                                                    أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العتمة
                                                                    مسرى ، وملعب الشمس مغنى .
                                                                    أَتملَّى وجه الحقيقة أَيان
                                                                    تراءَى ، وأَيَّ فعل تبنّى.
                                                                    فأَحيك الرؤى ، روى العقل ، فكراً
                                                                    يتجلَّى مع الزمان ، ويغنى :
                                                                    أَيّ فكرٍ يؤرخ الناس أَجيالا
                                                                    ويبني لغاية الكون معنى
                                                                    ويردّ الفناءَ وهماً ، وطيفَ الحقّ
                                                                    دنيا ، وقوةَ الشرِّ وَهْنا .
                                                                    أَنا حرٌّ يا ربِّ ! ما أَنت حرٌّ ؟
                                                                    ما وجودي ، تُرى ، إذا كنتَ عبدا :
                                                                    شيمةُ الحرّ أَن يروّض أَحراراً
                                                                    ويأْبى إلا التحرر مبدا .
                                                                    "كن كما شئت" سنّة الله في الكون
                                                                    تناهت إلى الخليقة عهدا.
                                                                    "كن كما شئت" هكذا أَنت إِنسان
                                                                    وكنْهُ الإنسان أَن لا يُحَدّا :
                                                                    حدُّه - إن يُحدّ - حرّية تسمو
                                                                    وتقتاده إلى الخير عمدا .
                                                                    ..
                                                                    أَنا حرٌّ يا ربّ ! حرّيتي كنهي ،
                                                                    أَرود الجمال فجراً وفجراً .
                                                                    كُلُّ فجرٍ أَروده أَفرشُ الارض
                                                                    ضحايا ، وأَفجُرُ الدمعَ بحرا.
                                                                    فكأَني وُجدتُ كي أَجتلي كنهي
                                                                    وأَجني حقي رويداً وقسرا ،
                                                                    وكأَن التاريخ ساحةُ حربٍ
                                                                    بين حرٍّ وبين من كان حرّا:
                                                                    أَتُرى جوهرُ الخليقة حرّية أَولى
                                                                    بمن فاز في النضال وأَحرى؟
                                                                    ..
                                                                    أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العقلُ
                                                                    جناحٌ وذروة الحق مرمى .
                                                                    يا إلهي شدّدْ جناحي ، وزده
                                                                    قوة منك ، فهو غضٌّ - ومهما
                                                                    همَّ من نفسهِ وحلَّقَ أَجواءً
                                                                    وطوّى من العلاءِ وضمّا ،
                                                                    ولا تزالُ الرياحُ تلوي خوافيهِ
                                                                    وتهوي بهِ إلى ما تَعمّى :
                                                                    فيصيرُ الوجودُ غمرَ ظلامٍ ،
                                                                    وتصير الحياة طيفاً ووهما.
                                                                    ..
                                                                    يا إلهي شدِّدْ جناحي : فما يكفيه
                                                                    علمٌ ، مهما تساميتُ علما .
                                                                    أَنتَ أَدرى بهِ ، فلو ينفع العلمُ
                                                                    لما زادتِ الخليقة إِثما ،
                                                                    ولما جئتَ ههنا تفتدي العقلَ
                                                                    وتروي أَنَّ المحبّةَ أَسمى .
                                                                    هبهُ من عندكَ المحبّةَ يا ربَّ ،
                                                                    وزوّدهُ بالمحبّة فهما :
                                                                    فاذا بالرياحِ غيرُ رياحٍ
                                                                    كلّما قارب الوصولَ ولمّا ...
                                                                    ..
                                                                    ربِّ هبني محبّةً ، فبها أُدركُ
                                                                    حريّتي وأَعرفُ نفسي.
                                                                    أَنا ، إِن لا أُحبُّ ، ما نفع عقلي
                                                                    لخلاصي ، وباطلٌ كلّ بأْسي.
                                                                    فخلاصي ، أنا المسيَّرُ بالغيبِ ،
                                                                    ومَن يومُهُ منوطٌ بأَمسِ ،
                                                                    إِنما تمَّ بالمحبة والعقلِ ،
                                                                    فلولاهما أَغوصُ برجسي :
                                                                    نعمةٌ أَستحقها ، إِنْ أَنا آمنتُ
                                                                    وطوَّعتُ للحقيقةِ حِسِّي .
                                                                    ..
                                                                    أَنا حرٌّ يا رب ! في أَضلعي شوقٌ
                                                                    إلى رؤية الحقيقة حرّا :
                                                                    شاهدٌ ، إِن رأَيتُها ، معلنٌ عنها
                                                                    صراحاً لدى الخليقةِ طرّا ،
                                                                    مفتديها بالروحِ إِنْ رام عبدٌ
                                                                    طمسَها خيفةً ، وجهلاً ، وغدرا .
                                                                    ويح نفسي ، ما أَتعسَ الحقَّ في الدنيا
                                                                    فكم مرةٍ يُباع ويُشرى:
                                                                    كلُّ شيٍ ، لدى العبيدِ ، حلالٌ
                                                                    غيرَ شيءٍ : قولُ الحقيقةِ جهرا .
                                                                    ***
                                                                    2
                                                                    إيهِ حريتي ! تذكرتُ بالأمس
                                                                    صراعي مع الزمانِ وبؤسي :
                                                                    أَنا في مصر بالعبودية عُمّدتُ ،
                                                                    فشبَّت على المذلَّة نفسي .
                                                                    وحسبتُ الخلودَ بالجسدِ الفاني
                                                                    فعمّّرت بالجماجم رمسي
                                                                    هَرَماً ، يسحق الفناءَ بكفَّيهِ
                                                                    ويضحي مع البقاءِ ويمسي :
                                                                    إِنَ من يطلب الخلود على الأَرض
                                                                    كمن يُفرغُ البحار بكأْسِ.
                                                                    وعلى شاطئ الفرات سأَلتُ النجمَ
                                                                    عن حاضري وعن أَحلامي ،
                                                                    أَغنم العيش برهةً قلَّ جدواها
                                                                    وعزّت مصحوبةً بالسلام .
                                                                    لا خلودٌ بعد الممات لنفسي ،
                                                                    ومصيري مغلَّفٌ بالظلامِ
                                                                    كنتُ عبداً للعيشِ ، للموتِ ، للشرِّ ،
                                                                    وعبداً للخوف والآلام ،
                                                                    أَجهلُ الله ، أَجهلُ الحبَّ والحقَّ ،
                                                                    وحرّيتي من الأَوهامِ .
                                                                    ..
                                                                    ويحَ أَشُّور ! كم سكبتُ بها الدمع ،
                                                                    وغيّبت في ثراها النفوسا ،
                                                                    رافعاً فوقها من المجدِ مُلكاً
                                                                    يتحدّى - إذا تُطلُّ - الشموسا
                                                                    أيُّّ ملكٍ على العبوديةِ العمياءِ
                                                                    يُبنى ، وما أُذِلّ وديسا:
                                                                    سلْ أَشوراً ، ورومةً ، والفراعينَ ،
                                                                    وكسرى - سلْ نينوى ، والمجوسا ،
                                                                    والأُولى طرّقت جيادُهُمُ البحرَ ،
                                                                    وصبّت نعالها هندوسا .
                                                                    ..
                                                                    أَيُّ ملكٍ كذاكَ يُبنى على القوّة
                                                                    يبقى ، فلا يزول ويبلى :
                                                                    أَين مجد العربان بعد ازدهارٍ
                                                                    حطَّ في قمّة الجلال وحلّا ؟
                                                                    أَين جنكيزُ فاتحُ الشرقِ والغربِ ،
                                                                    نذيرُ الهلاك أَنَّى أَطلَّا ؟
                                                                    أَين "تيمور" قاهراً ، والسلاطينُ
                                                                    غزاةً ، "والبونابرتيّ" مولى ؟
                                                                    هكذا يمّحي ظلام الليالي
                                                                    ويفيءُ الصَّباحُ مهما تولَّى .
                                                                    ..
                                                                    إيهِ حرّيتي ! تذكرتُ بالأَمس
                                                                    صراعي مع الزمان ونصري:
                                                                    أَنا في موطن الصنوبر والأَرز
                                                                    تحرّّيتُ عن حقيقةِ أَمري.
                                                                    فتحكمت بالطبيعةِ ، فانقادت
                                                                    إلى فكرتي ، سريعاً ، وفكري .
                                                                    فإِذا العقل سيِّدٌ ، والأَمانيُّ
                                                                    حبالى بكلِّ حبٍّ وخير ،
                                                                    وإِذا الله واحدٌ في ربى القدس ،
                                                                    وحرٌّ يسير بي حيث أَدري.
                                                                    ..
                                                                    يا لأَبرام ! يا للنبيّينَ من بعدُ
                                                                    ولاةٌ على الحقيقة طفلَهْ .
                                                                    سكبوا في سبيلها الدمَ والدمعَ ،
                                                                    وعاشوا من أجلها العمرَ كلَهْ
                                                                    لهمُ ، دون غيرهم ، شرف الوعدِ ،
                                                                    وإِنْ أَنكروا ، لدنْ تمَّ ، فِعلهْ
                                                                    واستعاضوا عن الحقيقةِ بالوهمِ
                                                                    وبالعيشِ دونها والتعلَّه ،
                                                                    واكتَفوا بالتراثِ من قبلُ ، واهاً
                                                                    أَينَ شأْن التراث إِنْ ظَلَّ قبلهْ ؟
                                                                    ..
                                                                    ما لحريتي على ملعب الإِغريق
                                                                    تُسقى ، غداة تظمأُ ، سمّا .
                                                                    أَيّ سمٍّ أَمدّ حرّية الفكر
                                                                    بفيضٍ من الشجاعةٍ أَسمى :
                                                                    شرفٌ من يناله يصحب الحقّ
                                                                    ويُجزى من المحبة نعمى .
                                                                    ذاك يومي ، نعمَّه ، ردّني حرّاً
                                                                    أَرى غايتي من العمر وهما ،
                                                                    إِنْ أَنا لا أَرود منتهلَ النور
                                                                    وأَزداد للحقيقةِ فَهْما .
                                                                    ..
                                                                    أيّ سمٍّ ، أَقول ، غلَّ يد الليل
                                                                    وأَولى على الصباحِ الخلودا .
                                                                    فإِذا بالأُلومب ملعب أَحرارٍ
                                                                    تحدّوا على الزمان العبيدا :
                                                                    ينشدون الجمال ، والعدل ، والخير ،
                                                                    ولاءً ، ويحْطمون القيودا ،
                                                                    رافعين اللواءَ في موكب الفكر
                                                                    جنوداً ، وحاملين البنودا :
                                                                    موكبٌ شيّد الحضارة من بعدُ ،
                                                                    وأعلى إلى السماء الحدودا.
                                                                    ..
                                                                    يا لفتحٍ للفكر فتح أَثينا ،
                                                                    أَين منه فتح السيوف البواترْ ؟
                                                                    تمَّحي دونه العروش ، ويفنى
                                                                    كلّ طاغٍ على الشعوب وقاهرْ .
                                                                    يا لفتحٍ للفكر ، مهّد للحقّ
                                                                    سبيلاً ، وزفّ خير البشائر :
                                                                    هوّذا الله عن خطاياي مصلوباً ،
                                                                    يريني وجه المحبّة سافرْ :
                                                                    فالتقى العالمان : الشرق والغرب ،
                                                                    وشدّا على الوداد والأَواصرْ .
                                                                    ..
                                                                    إِيه حرّيتي - إِذا تمّ نصري
                                                                    بفداءٍ من المحبة سمْحِ ،
                                                                    فتحررت من عبوديّة الشرِّ
                                                                    وفازت على الطبيعة روحي -
                                                                    فأَنا ما أَزال عبداً لنفسي ،
                                                                    أَبتني من لذاذة الحسّ صرْحي ،
                                                                    جائراً ، ظالماً ، أُكنِّن أَيامي
                                                                    بدمعٍ ، من الشقاءِ ، وجرح .
                                                                    فكأَنَّ البقاء غاية عمري
                                                                    أَدّعيها ، إذا تضنّّ ، برمح .
                                                                    ..
                                                                    أَنا في عالمٍ من الخوف والإرهاب
                                                                    صنعُ الفناءِ ، صنعُ يديّا ،
                                                                    زائعٍ يحسب المحبّة وهماً ،
                                                                    والتفاني في خدمة الحق غيّا ،
                                                                    جائعٍ ظنَّ قوته ثروة الأَرض ،
                                                                    وما كان جوعه جسديّا .
                                                                    فمضى في سبيلها يغرس الأَرض
                                                                    حراباً ، ويستبيح البريّا :
                                                                    إِنَّّه الملْك ، كم يدنِّس أَقداساً
                                                                    ويمشي في مأْتم المرءِ حيّا.
                                                                    ..
                                                                    أَين عهدٌ غيّبت حريتي فيه
                                                                    بسجنٍ من التقاليد قاسي ،
                                                                    أَخنق الفكر إِنْ تعدَّى حدوداً
                                                                    رسمتها ، من قبلُ ، أَيدي الأُناسي
                                                                    فالضحايا ، باسم الكنيسة والدين ،
                                                                    ترامت مخنوقة الأَنفاس ،
                                                                    تحمل النور في الليالي الدواجي
                                                                    وتصبّ الزيوت في النبراس :
                                                                    مأْتمٌ للظلام تلك الضحايا ،
                                                                    وهي للنور أَبهج الأَعراس.
                                                                    ذاك عهدٌ تصارع الفكر فيه
                                                                    معَ سجّانه ، فنال انتصارا .
                                                                    فأَطلَّت حريتي تنسج الفجر
                                                                    رداءً ، على الورى ، وإِزارا ،
                                                                    وعليها من الجلالة إِكليلٌ
                                                                    تسامى ، فزيّن الأَحرار ،
                                                                    ولديها شوق النفوس إلى الموت
                                                                    فداءً عنها ، إِذا ما توارى .
                                                                    واطمأَنَّت إلى يدٍ زندها غضٌّ ،
                                                                    وترمي ، فتسحق الأَشرارا .
                                                                    ..
                                                                    وغداً ، عندما تعود السيوفُ
                                                                    القضْبُ منصورةً إلى الأَغماد ،
                                                                    أَترى ينتهي صراعي مع الشرّ ،
                                                                    فأَحيا حرّاً إلى الآباد :
                                                                    أَصنع الخير ، أَنشد الحبّ والحقّ ،
                                                                    وأَطوي الجمال ملءَ فؤادي ؟
                                                                    نعمت لحظةٌ بها أَنا نفسي ،
                                                                    لا كما شاءَ أَو أَبى أَسيادي :
                                                                    مطمئنٌّ إلى غدٍ ، أَزرع الحسنى
                                                                    وأَجني المنى على ميعاد .
                                                                    ***
                                                                    3
                                                                    يا بلادي حضنتِ ، من قبلُ ، أَمجاداً
                                                                    وشيّدت في بناءِ الحضاره ،
                                                                    تغمرين الأَمداءَ حباً وإِيماناً
                                                                    وتعلين للجمال منارهْ :
                                                                    فعلى كل قمةٍ منك شيءُ ،
                                                                    والليالي تناقلتْ أَخباره.
                                                                    أَيُّ فكرٍ في تربك السمح لم يزهر ،
                                                                    فتجني يد الورى أَزهارهْ :
                                                                    فازدهى عالم ، وكنتِ له الفتح ،
                                                                    وجلَّى ، فكان غاركِ غاره .
                                                                    يا بلادي ، وكمْ رفعت لواءً
                                                                    سرمدياً في موكب الحريَّه :
                                                                    منك لقيان هازئاً بالسلاطين
                                                                    وحرباً على النفوس العتيَّه ،
                                                                    يرسل القول في الوجوه ويعلي
                                                                    الحق ، رغم الأّذى ورغم البليَّه .
                                                                    منك أُولئك الذين "تآخوا
                                                                    للصفا" في عقولهم والرويَّه ،
                                                                    والأَولى قيل عنهم "اعتزلوا" الحق ،
                                                                    وفي قولهم عمىً وأَذيَّه .
                                                                    ..
                                                                    ذاك أمسٌ مضى ، وما ينفع الأَمس
                                                                    إِذا لم يكن لدى اليوم حيَّا :
                                                                    وأَبى الدهر أَن يجود ، فغامتْ
                                                                    أَنجمٌ ، وارتمى جبين الثريَّا .
                                                                    وامَّحتْ شعلةٌ ، فساد ظلامٌ
                                                                    في بلادي ، وطأْطأَ الفكر عيَّا ،
                                                                    يحمل القيد في يديه ويمشي
                                                                    في عبودية الضلال شقيَّا :
                                                                    موجةٌ أَسيويةٌ راعها النور
                                                                    فأَرختْ حجابها البربريَّا .
                                                                    ..
                                                                    يا بلادي سلمت ، ما زال لبنان
                                                                    قويَّ العماد ، لما يذلا ،
                                                                    شامخ الأنف ، رافع الرأْس ، حرّاً ،
                                                                    هانئاً ، دون غيره ، مستقلاً ،
                                                                    ينحر الظلمة العتيَّة بالنور
                                                                    ويبقى لدى الصباح المطلا ،
                                                                    موئلاً يلجأُ الأُباة إِليه ،
                                                                    ويوافيه كل حرٍّ ومولى:
                                                                    ما تراه إلا تفرَّد في الشرق
                                                                    بأَسمى من البقاءِ وأَغلى !
                                                                    ..
                                                                    يا بلادي ، أَودعت عندك آمالي
                                                                    وأَسلمت في يديك القيادا !
                                                                    أَنت للغير قوة تشهر السيف
                                                                    وتبني ، على الفتوح ، العمادا -
                                                                    يا بلادي ، وانت لي موطنٌ حرٌّ
                                                                    تسامى محبةً ورشادا ،
                                                                    يحضن الفكر عبقريا ويمشي
                                                                    في ركاب الحياة أَنى تهادى :
                                                                    يعربيَّ اللسان ، واليد ، والوجه ،
                                                                    يولِّي شطرَ البحار الفؤادا.