أُنْظُرْ إلى ذَاكَ الْجِدَارِ الحَاجِبِ - خليل مطران
أُنْظُرْ إلى ذَاكَ الْجِدَارِ الحَاجِبِ
                                                                            مَا السَّدُّ فِيمَا حَدَّثُوا عَنْ مَأْرِبِ
                                                                    هُوَ فِي الْحَدِثِ مِنَ الْبِنَاءِ غَرِيبُةٌ
                                                                            زَانَ الْقَدِيمُ جِوَارَهَا بِغَرَائِبِ
                                                                    إِحْدَى الْعَجَائِبِ فِي بِلاَدٍ لَمْ تَزَلْ
                                                                            مِنْ مَبْدَإِ الدُّنْيَا بِلاَدَ عَجَائِبِ
                                                                    حُسْنُ الطَّبِيَعَةِ أَكْمَلَتْهُ صِنَاعَةٌ
                                                                            لِلنَّفْعِ فِيهَا بَيِّنَاتُ مَآرِبِ
                                                                    شُطِرَ الْعَقِيقُ فَفَائِضٌ فِي جَانِبٍ
                                                                            مَجْرَى الْحَيَاةِ وَغَائِضٌ فِي جَانِبِ
                                                                    أَلنِّيلُ خَلْفَ السَّدِّ بَحْرٌ غامِرٌ
                                                                            لاَ تُسْتَقَلُّ بِهِ صِغَارُ مَرَاكِبِ
                                                                    بَلَغَ السَّوَامِقَ فِي النَّخِيلِ فَزَيَّنَتْ
                                                                            تِيجَانُهَا صَفَحَاتِهِ بِرَوَاكِبِ
                                                                    وَالْغَوْرُ بَيْنَ يَدِيْهِ مَرْمىً شَاسِعٌ
                                                                            لِلْمَاءِ فِي قَاعٍ كَثِيرِ جَنَادِبِ
                                                                    لاَ تَنْتَهِي صَفْوَاؤُهُ إِلاَّ
                                                                            نِيلٍ تَجَدَّدَ مِنْ شَتِيتِ مَسَارِبِ
                                                                    لَمْ يَحْتَبَسْ نَهْرٌ بِسَدٍّ قَبْلَهُ
                                                                            ضَخْمٍ ضَخَامَتَهُ عَرِيض الْغَارِبِ
                                                                    يَجْتَازُ مَنْ يَعْلُوهُ نَهْجاً نَائِياً
                                                                            طَرَفَاهُ تَحْمِلُهُ ضِخَامُ مَنَاكِبِ
                                                                    أَتَرَى هُنَالِكَ فِي ثِيَابٍ رَثَّةٍ
                                                                            أَشْتَاتَ حُسْنٍ جُمِّعَتْ فِي قَالَبِ
                                                                    فَلاَّحَةً جَثَمَتْ بِأَدْنَى مَوْقِعٍ
                                                                            لِلظِّلِّ مِنْ الطَّرِيقِ اللاَّحِبِ
                                                                    لاَنَتْ مَعَاطِفُهُا وَصَالَتْ عِزَّةٌ
                                                                            قَعْسَاءُ مِنْ أَجْفَانِهَا بِقَوَاضِبِ
                                                                    أَدْمَاءُ إِلاَّ أَنَّ كُدْرَةَ عَيْشِهَا
                                                                            شَابَتْ وَضَاءَةُ لَوْنِهَا بِشَوَائِبِ
                                                                    هِيَ أُمُّ طِفْلٍ شُقَّ عَنْهُ طَوْقُهُ
                                                                            وَتَرَى نَضَارَتَهَا نَضَارَةَ كَاعِبِ
                                                                    طَالَ المَسِيرُ بِهَا فَأَعْيَتْ فَاسْتَوَتْ
                                                                            تَبْغِي الْجَمَامَ مِنَ المَسِيرِ النَّاصِبِ
                                                                    أَلْوَتْ كَمَا يُلْقِي الضَّعِيفُ بِحِمْلِهِ
                                                                            وَسْنَى وَقَدْ يَغْفُو ضَمِيرُ اللاَّغِبِ
                                                                    وَثَوَى ابْنُهَا ويَدَاهُ مِلْؤُهُمَا حصىً
                                                                            مَلْسَاءُ يَلْعَبُ فِي مَكَانٍ صَاقِبٍ
                                                                    أَمِنَتْ عَلَيْهِ وَالحَدِيدُ حِيَالَهُ
                                                                            كَأَضَالِعٍ مَشْبُوكَةٍ وَرَوَاجِبِ
                                                                    وَالجِسْرُ مَمْتَدٍّ قَوِيمٌ لاَ تَرَى
                                                                            فِيهِ مَظِنَّةَ خَاطِفٍ أَوْ سَالِبِ
                                                                    لَكِنَّ أَبْنَاءَ الجَمَاهِيرِ ابْتُلُوا
                                                                            فِي الشَّرْقِ مِنْ قِدَم بِخَطْبٍ حَازِبٍ
                                                                    لِلْجَهْلِ فِيهِمْ سُلْطَةٌ أَمَّارَةٌ
                                                                            بِالسُّوءِ غَيْرُ بَصِيرَةٍ بَعَوَاقِبِ
                                                                    أَوْدَتْ بِجِيلٍ بَعْدَ جِيلٍ مِنْهُمُ
                                                                            لاَ بِدْعَ إِنْ أَوْدَتْ بِطِفْلٍ لاَعِبِ
                                                                    خَدَعَتْهُ أَصْوَاتُ الهَدِير وَشَاقَهُ
                                                                            قَرْعُ الطُّبُولِ بِهَا وَنَفْخُ القَاصِبِ
                                                                    فَاسْتَدْرَجَتْهُ وَحَرَّكَتْ أَقْدَامَهُ
                                                                            نَحْوَ الفَرَاغِ ويَا لَهُ مِنْ جَاذِبِ
                                                                    فَأَطَلَّ والمَهْوَى سَحِيقٌ دُونَهُ
                                                                            وَالعُمْقُ لِلأَبْصَارِ أَقْوَى جَالِبِ
                                                                    حَتَّى إِذَا فَعَلَ الدُّوَارُ بِرَأْسِهِ
                                                                            فِعْلَ الطِّلاَ دَارَتْ بِرَأْسِ الشَّارِب
                                                                    زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ إلى مُتَحَدَّرٍ
                                                                            لِلْمَاءِ مُبْيَضِّ الجَوَانِبِ صَاخِبِ
                                                                    فَدَعَا بِيَا أُمَّاهُ حِينَ سُقُوطِهِ
                                                                            وَطَوَاهُ دُرْدُورُ الأَتِيِّ السَّارِبِ
                                                                    هَبَّتْ لِتَلْبِيَةِ ابْنِهَا وَتَرَاكَضتْ
                                                                            مِنْ كلِّ نَاحِيَةٍ بِقَلْبٍ وَاجِبِ
                                                                    مَرَّتْ وَكَرَّتْ لاَ تَعِي وَتَعَثَّرَتْ
                                                                            يُمْنَى وَيُسْرَى بِالرَّجَاءِ الخَائِبِ
                                                                    فَتَدَافَعَتْ نَحْوَ الشَّفِيرِ وَمَا لَهَا
                                                                            لَوْنٌ سِوَى لَوْنِ القُنُوطِ الشَّاحِبِ
                                                                    تَرْنُو بِعَيْنٍ أُفْرِغَتْ مِنْ نُورِهَا
                                                                            وَتَمَدَّدَتْ أَرَأَيْتَ عَينَ الهَائِبِ
                                                                    فَإِذَا شِعَابُ النّهْرِ تَذْهَبُ بِابْنِهَا
                                                                            فِي فَجْوَةِ الَوادِي ضُرُوبَ مَذَاهِبِ
                                                                    فَاظْنُنْ بِرَوْعَتِهَا وَسُرْعَةِ عَدْوِهَا
                                                                            نحْوَ العَقِيقِ وَدَمْعِهَا المُتَسَاكِبِ
                                                                    فِي ذلِكَ المِيقَاتِ أَقْبَلَ يَافِعٌ
                                                                            بِوِسَامِ كَشَّافٍ وَبِزَّةِ طَالبِ
                                                                    قَبَلٌ لِلِينِ الأَسْمَرِ الخَطِّيِّ فِي
                                                                            لَوْنٍ إلى صَدَإِ المُهَنَدِ ضَارِبِ
                                                                    مِنْ فِتْيَةِ الزَّمَنِ الَّذِينَ سَمَا بِهِمْ
                                                                            مَوْفُورُ آدَابٍ وَيُمْنُ نَقَائِبِ
                                                                    وَتَنَزَّهَتْ أَخْلاَقُهُمْ عَنْ وَصْمَةٍ
                                                                            بِتَرَدُّدٍ مُزْرٍ وَجُبْنٍ عَائِبِ
                                                                    قَدْ رَاضَ مِنْهُمْ كُلُّ شِبْلٍ بَأْسَهُ
                                                                            فَغَدَا كَلَيْثٍ فِي الكَرِيهَةِ دَارِبِ
                                                                    صَدَقَتْ مَوَاقِفُهُ لَدَى الجُلَّى فَمَا
                                                                            دَعْوَى الشَّجَاعَةِ مِنْهُ دَعْوَى كَاذِبِ
                                                                    ذَاكَ الفَتَى وَافَى لِيَروِي غُلَّةً
                                                                            بِالنَّفْسِ مِنْ عَجَبٍ هُنَالِكَ عَاجِبِ
                                                                    مِنْ رَوْعَة النَّهْرِ الحَبِيسِ جَرَتْ بِهِ
                                                                            مِنْ مَهْبطٍ عَالٍ عِرَاضُ مَذَانِبِ
                                                                    وَجَمَالِ مَا يَبْدُو لَهُ مِنْ جَنَّةٍ
                                                                            غَنَّاءَ فِي ذَاكَ المَكَانِ العَاشِبِ
                                                                    فَرَأَى ولِيداً دَامِياً مُتَخَبِّطَاً
                                                                            بَيْنَ المَسِيلِ وَصَخْرِهِ المُتَكَالِبِ
                                                                    وَشَجَاهُ مِنْ أُمِّ الغَرِيقِ تَفَجُّعٌ
                                                                            مُتَدَارِكٌ مِنْ مَوْضِعٍ مُتَقَارِبِ
                                                                    نَاهِيكَ بِالْيَأْسِ الشَّدِيد وَقَدْ غَدَا
                                                                            كَالنَّبْحِ مِنْ جَرَّاهُ نَحْبُ النَّاحِبِ
                                                                    أَوْحَى إِلَيهِ قَلْبُهُ مِنْ فَوْرِهِ
                                                                            أَنَّ انْتِقَاذَ الطِّفْلِ ضَرْبَةُ لاَزِبِ
                                                                    سُرْعَانَ مَا أَلْقَى بِوِقْرِ ثِيَابِهِ
                                                                            عَنْهُ وَخَفَّ بِعَزْمِ فَهْدٍ وَاثِبِ
                                                                    مُتَوَغَّلاً في الْغَمْرِ غَيْرَ مُحَاذِرٍ
                                                                            يَحِدُ الرَّدَى أَمَماً وَلَيْسَ بِنَاكِبِ
                                                                    مَا زَالَ حَتَّى اسْتُنْفِدَتْ مِنْهُ الْقُوَى
                                                                            هَلْ مِنْ مَرَدٍّ لِلْقَضَاءِ الْغَالِبِ
                                                                    أَبْلَى بَلاَءَ الأَبْسَلِينَ فَلَمْ يَقَعْ
                                                                            إِلاَّ عَلَى شَجَبٍ هُنَالِكَ شَاجِبِ
                                                                    ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ بِهِ غَضَّ الصِّبَا
                                                                            للهِ دَرُّكَ فِي الْعُلَى مِنْ ذَاهِبْ
                                                                    إِنِّي أَسِيتُ عَلَى الغُلاَمِ وَأُمِّهِ
                                                                            لَكِنْ أَسَى مُتَبَرِّمٍ أَوْ غَاضِبِ
                                                                    جَزِعٍ عَلَى الأَوْطَانِ مِنْ عِلَلٍ بِهَا
                                                                            وَعَلَى وَلاَةِ الأَمْرِ فِيهَا عَاتِبِ
                                                                    لَوْ عُدَّ مَا فَعَلَتْ جَهَالَتُنَا بِنَا
                                                                            لَمْ يُحْصِ أَكْثَرَهُ حِسَابُ الْحَاسِبِ
                                                                    أَمَّا الَّذِي أَبْكِي رَدَاهُ بِحُرْقَةٍ
                                                                            وَبِمَدْمَعٍ مَا عِشْتُ لَيْسَ بِنَاضِبِ
                                                                    فَهْوَ الَّذِي دَعَتِ الْحِمِيَّةُ فَانْبَرَى
                                                                            مُتَطَوِّعاً لِفِدَى غَريبٍ شَاذِبِ
                                                                    وَشَرَى الْحَيَاةَ لِغَيْرِهِ بِحَيَاتِهِ
                                                                            وَالْعَصْرُ عَصْرُ المُسْتَفِيدِ الْكَاسِبِ
                                                                    هَذَا هُوَ الْكَشَّافُ أَبْدَعَ مَا يُرَى
                                                                            فِي صُورَةٍ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ كَاتِبِ
                                                                    وَهَلِ الْفَتَى الْكَشَّافُ إِلاَّ مَنْ رَمَى
                                                                            مَرْمَىً وَلَمْ يَخْشَ اعْتَرِاضَ مَصَاعِب
                                                                    وَمَضَى لَطِيفاً فِي ابْتِغَاءٍ مَرَامِهِ
                                                                            أَوْ غَيْرَ مُلْوٍ دُونَهُ بِمَعَاطِبِ
                                                                    لا يَسْتَهِينُ بِعِرْضِ غَانِيَةٍ وَلاَ
                                                                            يَنْسَى أَوَانَ الضَّيْمِ حَقَّ الشَّائِبِ
                                                                    وَيَكَونُ يَوْمَ السِّلْمِ خَيْرَ مَسَالِمٍ
                                                                            ويَكُونُ يَوْمَ الْحَرْبِ خَيْرَ مُحَارِبِ
                                                                    فإِذَا دَعَا دَاعِي الْفِدَاءِ فَإِنَّهُ
                                                                            يَقْضِيهِ أَوْ يَقْضِي شَهِيدَ الْوَاجِبِ
                                                                    فِي ذِمَّةِ المَوْلَى شِهَابٌ عَاثِرٌ
                                                                            تَبْكِيهِ أُمَّتُهُ بِقَلْبٍ ذَائِبِ
                                                                    بَاقٍ وإِنْ هُوَ غَابَ سَاطِعُ نُورِهِ
                                                                            حَتَّى يُكَادَ يَخَالُ لَيْسَ بِغَائِبِ
                                                                    مِصْرٌ تُتَوِّجُهُ بِتَاجِ خَالِدٍ
                                                                            يَزْهُو سَنَاهُ عَلَى المَدَى المُتَعَاقِبِ
                                                                    وَتَقُولُ قَدْ ثَكِلَتْ سَمَائِي كَوْكَباً
                                                                            لَكِنَّ قُدْوَتَهُ وَلُودُ كَوَاكِبِ