رسمة .. - خميس
جَلَسَتْ على الأنقاض تنظر حائرةْ .
                                                                    يا للبراءةِ .. في العيون الناظرةْ .
                                                                    هم هكذا الأطفالُ ، نُؤسَرُ عادةً
                                                                    لمَّا نراهم ،
                                                                    فالطفولةُ آسرةْ .
                                                                    جلست وفي يدها الصغيرة رسمةٌ
                                                                    وأمامها الأدواتُ شبه مبعثرةْ .
                                                                    قلمٌ وممحاةٌ ومبراةٌ وفرجارٌ وألوانٌ ،
                                                                    هناك ومسطرةْ .
                                                                    كم عمرُها ؟ سبعٌ ؟ ثمانٍ ؟
                                                                    قلتُ : لم تبلغْ ، لنفسي ، بعدُ سنَّ العاشرةْ .
                                                                    ـ " عمُّو " .! التفتُّ
                                                                    وقد سمعتُ نداءها
                                                                    وسألتُ :
                                                                    هل ناديتِني يا " شاطرةْ " ؟
                                                                    قالت : نعمْ ، وإذا سمحتَ دقيقةً
                                                                    سأكون من أعماق قلبي شاكرةْ .
                                                                    وأتت إلىَّ بسرعةٍ ،
                                                                    فلمحتُ في العين الصغيرةِ دمعةً متحجرةْ .
                                                                    مدت برسمتها إليَّ وأردفت :
                                                                    " قلْ لي ، ولا تكذبْ !
                                                                    ألستُ بماهرةْ " ؟
                                                                    شاهدتُ ما صنعتْ ، فقلتُ : بلى ، وكم
                                                                    هي رسمةٌ ممتازةٌ ومعبِّرةْ !.
                                                                    ثم التفتُ لها ، وقلتُ وقد بدت
                                                                    من فرط إعجابي بها ، متأثرةْ :
                                                                    هل هذه دبَّابةٌ يا حلوتي ؟
                                                                    قالت : نعم وهنا رسمتُ الطائرةْ .
                                                                    حمراءَ ..
                                                                    لوَّنْتُ السماءَ وتلكم الشمسُ اختفت
                                                                    خلف الغيوم العابرةْ .
                                                                    ورسمْتُ عمِّي ،
                                                                    وهو حيٌ في جِنانِ الخلد في
                                                                    تلك الحياة الآخرةْ .
                                                                    وعمارةً من طابقين لجارنا
                                                                    مهدودةً ، مجروفةً ، ومدمرةْ .
                                                                    لم أنس شيئاً ،
                                                                    كلُّ ما في رسمتي
                                                                    هو صورةٌ عمَّا جرى ومصغَّرة .
                                                                    جاء اليهود هنا ،
                                                                    وكنتُ أنا على الشبَّاكِ ،
                                                                    وقت وقوع تلك المجزرةْ .
                                                                    لِمَ يقصفونَ بيوتَنا وخيامنا ؟
                                                                    وكأنهم حُمُرٌ غدت مُستنفِرةْ .
                                                                    لِمَ يزرعون الكره فينا عنوةً
                                                                    نحن الصغارَ ،
                                                                    ذوي القلوبِ الطاهرةْ .؟
                                                                    هل يرغبون العيش مع أشباحنا ؟
                                                                    تباً لهم !
                                                                    متوحشون برابرةْ .
                                                                    أمخيمٌ ؟،
                                                                    هذا الذي نحيا به ؟
                                                                    أُنظُرْ له !
                                                                    فلقد غدا كالمقبرةْ .
                                                                    لكننا باقونَ ، رغم أنوفهم
                                                                    ماذا لدينا نحن حتى نخسرَه .؟
                                                                    غير الحياةِ ، وهذه صارت بلا
                                                                    طعمٍ ولا لونٍ ،
                                                                    وصارت مسخرةْ !
                                                                    حاولتُ جهدي أن أقاطعها فلم
                                                                    أسطِعْ ،
                                                                    وأعصابي غدت متوترة .
                                                                    هل غبتُ عن وعيي قليلاً ربما ؟
                                                                    هل بُحَّ صوتي ؟
                                                                    هل فقدتُ السيطرةْ ؟
                                                                    أم أنها الكلماتُ من عجزٍ بها
                                                                    ترتدُّ للقصباتِ أو للحنجرة ؟.
                                                                    مرت ثوانٍ ..
                                                                    ثم دوَّى صوتُها المتهدِّج المجروحُ ،
                                                                    مثل الصافرةْ .
                                                                    ـ " عمُّو " .. أتسمعني ؟!
                                                                    فقلت لها : نَعَمْ
                                                                    ما مات شعبٌ ، فيه تحيا الذاكرة .!
                                                                    كلُّ الطيور تعودُ إنْ هيَ هاجرت
                                                                    وطيور شعبي ،
                                                                    لن تظلَّ مهاجرةْ .!