يَجيءُ المَساءُ حَزينا - حلمي الزواتي
(1)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    عَلى شاطِئ الحُزْنِ نَمْضي
                                                                    كَأَني وَ أَنْتِ عَلى مَوْعِدٍ لِلرَّحيلْ
                                                                    وَ هذي العَصافيرُ فَوْقَ الجَليلْ
                                                                    وَ أَشْجارُ يافا وَ كُلُّ كُروم الخَليلْ
                                                                    تَعُدُّ الحُروفَ التي شَرَّدَتْني
                                                                    وَ تُحْصي الجِراحَ التي أَحْرَقَتْني
                                                                    وَ عَزَّةُ لا تَعْرِفُ الآنَ وَجْهي
                                                                    وَ عَزَّةُ لا تَعْرِفُ الآنَ لَوْني
                                                                    وَ عَزَّةُ كَالقَطْرِ فَوْقَ عُذوق النَّخيلْ
                                                                    وَ عَزَّةُ تَمْضي بِلا مَوْعِدٍ للرَّحيلْ
                                                                    (2)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    يَجئُ المَساءُ حَزيناً عَلى شاطِئ الذِّكْرَياتْ
                                                                    فَيَبْكي وَ نَبْكي مَعاً مَوْعِداً
                                                                    كانَ بِالأَمْس لَمْ نَأْتِهِ
                                                                    وَ جُرْحاً جَريحاً بِخُصْلَةِ شَعْرِكِ ضَمَّدْتِهِ
                                                                    وَ نَرْثي رَبيعاً مَضى في خَريفْ
                                                                    وَ ريحاً تُقَوِّضُ قَصْراً مُنيفْ
                                                                    فَتَنْمو جِراحي
                                                                    وَ أَنْزِفُ مِنْ جَبْهَتي البُرْتُقالْ
                                                                    وَ أَعْصِرُ جُرْحي، فَيَأْتي المُحالُ
                                                                    وَراءَ المُحالْ
                                                                    وَ يَكْبُرُ ظِلِّي وَ يَنْمو
                                                                    وَ تَكْبُرُ روحي فَأَكْبو
                                                                    (3)
                                                                    و أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    كَأَنِّي بِكِ الآنَ في لَحْظَةِ الالْتِحام
                                                                    كَأَنَّ دِمائي التي قَدْ رُويتِ
                                                                    رَبيعاً مَضى
                                                                    وَ بَيروتُ لا تَرْحَمُ الرَّاحِلينْ
                                                                    وَ حَلحولُ تَنْفُضُ عَنْ ساعِدَيْها الرَّمادَ
                                                                    وَ تَمْسَحُ بِالنَّارِ وَجْهَ العِدى
                                                                    وَ تَلْبَسُ عَزَّةُ ثَوْباً جَديدا
                                                                    وَ تَرْسِمُني الآنَ رَسْماً بَعيدا
                                                                    وَ تَجْعَلُ قَلبي قَديداً قَديدا
                                                                    فَلا تَقْتُلوا الشَّمْسَ في جَبْهَتي
                                                                    وَ لا تَقْطَعوا مِعْصَمي عَنْ يَدي
                                                                    وَ لا تَفْصِلوا عَنْ دَمي العُنْفُوانْ
                                                                    فَعَزَّةُ.. عَزَّةُ قَدْ وَهَبَتْني كُلَّ الحَنانْ
                                                                    وَ عَزَّةُ.. عَزَّةُ قَد أَثْخَنَتْني بِكُلِّ السِّنانْ
                                                                    (4)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    عَلى صَهْوَةِ الجُرْح جِئْتُكِ طِفْلاً مُقاتِلْ
                                                                    تَعَلَّقَ وَجْهي بِنَجْم السَّماءِ
                                                                    انْتَظَرْتُ
                                                                    تَصالَبَ في داخلي الانْتِظارُ
                                                                    وَ ما أَعْذَبَ الانْتِظارَ وَ جُرْحي
                                                                    وَ أَنْتِ هُنا تُبْحِرينْ
                                                                    وَ أَنْتِ هُنا الياسَمينْ
                                                                    فَكَيْفَ أَجيئُكِ مِنْكِ؟
                                                                    وَ كَيْفَ أُعانِقُ ظِلَّكِ؟
                                                                    إِنَّ الرِّياحَ، كَما أَعْلَموني،
                                                                    تَكيدُ المُحِبينَ دَوْماً
                                                                    وَ تُنْسي الحَنينْ
                                                                    (5)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    أُرَمِّمُ جُرْحا طَوَتْهُ الرِّياحُ
                                                                    وُ كُلُّ الرِّياح أَتَتْ مِنْ جَبيني
                                                                    وَ يَمْتَزِجُ الجُرْحُ بِالجُرْح
                                                                    يَشْتَعِلُ القَلْبُ شَيْباً
                                                                    وَ يَقْتُلُني البُعْدُ وَجْداً
                                                                    وَ ما أَجْمَلَ القَتْلَ حُبًّا
                                                                    وَ ما أَعْذَبَ الحُبَّ صَلْباً
                                                                    وَ ما الصَّلْبُ إِلاَّ طَريقَ الحَياةِ
                                                                    وَ ما المَوْتُ إِلاَّ سَبيلَ النَّجاةِ
                                                                    تَعالي لأُبْحِرَ فيكِ وَ أَرْسو
                                                                    تَعالَيْ أُجَدِّدُ مَوْتي وَ أَغْفو
                                                                    تَعالَيْ وَ كوني عُيونَ الغَضَبْ
                                                                    تَعالَيْ وَ كوني جَحيمَ اللهَبْ
                                                                    تَعالَيْ لأُقْتَلَ فيكِ وَ أَغْدو
                                                                    لأُنْهِيَ عُمْري الحَزينَ وَ أَشْدو
                                                                    (6)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    فَخُضْتُ مَخاضاً عَسيرا
                                                                    صَعَدْتُ الوُجوهَ التي تَحْتَرِقْ
                                                                    وَ أَمْسَكْتُ بِالشَّمْس
                                                                    قالَتْ لِيَ السِّرَ
                                                                    قُلْتُ لَها: فَلْتَكوني البِحارَ التي تَحْتَرِقْ
                                                                    أَنا ما نَسَيْتُ جِراحي
                                                                    وَ لكِنَّ قَلْبِيَ عَنِّي تَخَلَّى كَطَيْرٍ أَرِقْ
                                                                    فَلا تَغْصِبوا الفَجْرَ مِنْ ناظِري
                                                                    وَ لا تَقْطَعوا مِعْصَمي عَنْ يَدي
                                                                    فَعَزَّةُ جُمِّيزَةٌ في بِلادي
                                                                    وَ عَزَّةُ طِفْلٌ نَما في فُؤادي
                                                                    (7)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    تَجيءُ المَراكِبُ لا شَيْءَ فيها
                                                                    وَ بَيروتُ تَغْسِلُ وَجهي بِماءِ المَطَرْ
                                                                    و أَذْكُرُ أَنِّي وَ أَنْتِ رَكِبْنا الخَطَرْ
                                                                    وَ كانَ الرَّصاصُ يَطارِدُ فينا الزَّمَنْ
                                                                    وَ يَنْقُشُ رَسْمي وَ رَسْمَكِ فَوْقَ المِحَنْ
                                                                    وَ يَحْضُنُنا البَحْرُ طِفْلَيْن هاما مِنَ الوَجْدِ
                                                                    جاءَا بِلا مَوْعِدٍ لِلرَّحيلْ
                                                                    وَ يُلْبِسُنا الآنَ ثَوْبَ القَتيلْ
                                                                    وَ تُنْشِدُنا الآنَ فَيْروزُ شِعْراً شَهيدا
                                                                    أُحِبُّكَ لُبْنانُ إِنِّي أُحِبُّكْ
                                                                    وَ أَسْأَلُ نَفْسي:
                                                                    لِماذا أُحِبُّكِ يَوْماً وَ أَرْحَلْ؟
                                                                    لِماذا أُريدُكِ طِفلاً مُكَبَّلْ؟
                                                                    لِماذا..
                                                                    لِماذا..
                                                                    لِماذا؟
                                                                    أَلا تَخْبُرينْ؟
                                                                    وَ هَلْ تَعْرفينَ العُيونَ التي أَوْجَعَتْني؟
                                                                    وَ هَلْ تَعْلَمينَ السُّيوفَ التي أَثْخَنَتْني؟
                                                                    (8)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    لِماذا السَّفَرْ؟
                                                                    وَ أَنْتِ التُّرابُ وَ نَحْنُ الحَجَرْ
                                                                    وَ أَنْتِ الرُّبوعُ وَ نَحْنُ الشَّجَرْ
                                                                    أَلا تَذْكُرينْ؟
                                                                    فَنَحْنُ ابْتِداءٌ بِدون انْتِهاءْ
                                                                    وَ نَحْنُ الشَّقاءُ وَ نَحْنُ الرَّخاءْ
                                                                    أَلا تَذْكُرينْ؟
                                                                    (أُعانِقُ فيكَ التِهابَ الحَياهْ)
                                                                    وَ نَحْنُ العَبيدُ وَ نَحْنُ الجُناهْ
                                                                    وَ نُحْنُ امْتَطَينا سُروجَ الظَّلام
                                                                    فَصِرْنا مَعَ الفَجْرِ رَهْطَ الحُفاهْ
                                                                    (9)
                                                                    وَ أَبْحَرْتُ مِنْكِ إِلَيْكِ
                                                                    كَأنِّي أُسافِرْ
                                                                    كَأنِّي خَرَجْتُ مِنَ المَهْدِ لِلَّحْدِ
                                                                    كُنْتُ أُغامِرْ
                                                                    تَلَمَّسْتُ قَلْبي فَكانَ الخَناجِرْ
                                                                    وَ عُدْتُ إِلَيْكِ فَصِرْتِ المَقابِرْ
                                                                    فلا تَذْهَبي في الغِيابِ الطَّويلْ
                                                                    لأَنَّ الخَليلَ،
                                                                    و حَلْحولَ،
                                                                    دُورا،
                                                                    عَنَبْتا،
                                                                    وَ جِنينَ
                                                                    تُرْخي الضَّفائِرْ
                                                                    وَتَجْدِلُ حَبْلاً لِشَنْق الغُزاهْ
                                                                    وَ تَكْتُبُ بِالدَّم سِفْرَ الحَياهْ
                                                                    فَلا تَذْهَبي في السَّحابِ البَعيدْ
                                                                    فَنَحْنُ عَلى مَوْعِدٍ لِلمَطَرْ
                                                                    سَنَنْزِفُ في الفَجْرِ نارًا
                                                                    رَصاصاً
                                                                    سَنَصْنَعُ تاريخَ هذا البَشَرْ
                                                                    ___________
                                                                    يَجيءُ المَساءُ حَزينا: من ديوان "قصائد ممنوعة التجوال" الطبعة الثانية ،
                                                                    بيروت: مؤسسة السنابل الثقافية، 1982. ص ص 93-114.