البلبل الغريب - بدوي الجبل
سلي الجمر هل غالى وجنّ و عذّبا
                                                                            كفرت به حتّى يشوق و يعذبا
                                                                    و لا تحرميني جذوة بعد جذوة
                                                                            فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا
                                                                    و ما نال معنى القلب إلاّ لأنّه
                                                                            تمرّغ في سكب اللّظى و تقلّبا
                                                                    هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة
                                                                            فما كنت أرضى منك حزنا مجرّبا
                                                                    و صوغيه لي وحدي فريدا و أشفقي
                                                                            على سرّه المكنون أن يتسرّبا
                                                                    مصونا كأغلى الدرّ عزّ يتيمه
                                                                            فأودع في أخفى الكنوز و غيّبا
                                                                    و صوغيه مشبوب اللّظى و تخيّري
                                                                            لآلامه ما كان أقسى و أغربا
                                                                    و صوغيه كالفنّان يبدع تحفه
                                                                            و يرمقها نشوان هيمان معجبا
                                                                    فما الحزن إلاّ كالجمال ، أحبّه
                                                                            و أترفه ، ما كان أنأى و أصعبا
                                                                    خيالك يا سمراء ، مرّ بغربتي
                                                                            فحيّا و رحّبنا طويلا و رحّبا
                                                                    جلاك لعيني مقلتين و ناهدا
                                                                            و ثغرا كمطول الرياحين أشنبا
                                                                    فصانك حبّي في الخيال كرامة
                                                                            و همّ بما يهواه لكن تهيّبا
                                                                    و بعض الهوى كالغيث إن فاض تألّق
                                                                            و بعض الهوى كالغيث إن فاض خرّبا
                                                                    أرى طيفك المعسول في كلّ ما أرى
                                                                            وحدت و لكن لم أجد منه مهربا
                                                                    سقاني الهوى كأسين : يأسا و نعمة
                                                                            فيالك من طيف أراح و أتعبا
                                                                    و خالط أجفاني على السّهد و الكرى
                                                                            فكان إلى عيني من الجفن أقربا
                                                                    شكونا له السّمراء حتّى رثى لنا
                                                                            و جرّأنا حتّى عتبنا فأعتبا
                                                                    و ناولني من أرز لبنان نفحة
                                                                            فعطّر أحزاني و ندّى و خضّبا
                                                                    و ثنّى بريّا الغوطتين يذيعها
                                                                            فهدهد أحلامي وأغلى و طيّبا
                                                                    و هل دلّلت لي الغوطتان لبانة
                                                                            أحبّ من النعمى و أحلى و أعذبا
                                                                    وسيما من الأطفال لولاه لم أخف
                                                                            _ على الشيب_ أن أنأى و أن أتغرّبا
                                                                    تودّ النّجوم الزهر لو أنّها دمى
                                                                            ليختار منها المترفات و يلعبا
                                                                    و عندي كنوز من حنان و رحمة
                                                                            نعيمي أن يغرى بهنّ و ينهبا
                                                                    يجور و بعض الجور حلو محبّب
                                                                            و لم أر قبل الطفل ظلما محبّبا
                                                                    و يغضب أحيانا و يرضى و حسبنا
                                                                            من الصفو أن يرضى علينا و يغضبا
                                                                    و إن ناله سقم تمنّيت أنّني
                                                                            فداء له كنت السقيم المعذّبا
                                                                    و يوجز فيما يشتهي و كأنّه
                                                                            بإيجازه دلاّ أعاد و أسهبا
                                                                    يزفّ لنا الأعياد عيدا إذا خطا
                                                                            و عيدا إذا ناغى و عيدا إذا حبا
                                                                    كزغب القطا لو أنّه راح صاديا
                                                                            سكبت له عيني و قلبي ليشربا
                                                                    و أوثر أن يروى و يشبع ناعما
                                                                            و أظمأ في النعمى عليه و أسغبا
                                                                    و ألثم في داج من الخطب ثغره
                                                                            فأقطف منه كوكبا ثمّ كوكبا
                                                                    ينام على أشواف قلبي بمهده
                                                                            حريرا من الوشي اليمانيّ مذهبا
                                                                    و أسدل أجفاني غطاء يظلّه
                                                                            و ياليتها كانت أحنّ و أحدبا
                                                                    و حمّلني أن أقبل الضيم صابرا
                                                                            و أرغب تحنانا عليه و أرهبا
                                                                    فأعطيت أهواء الخطوب أعنّتي
                                                                            كما اقتدت فحلا معرق الزّهو مصعبا
                                                                    تأبّى طويلا أن يقاد .. و راضه
                                                                            زمان فراخى من جماح و أصحبا
                                                                    تدلّهت بالإيثار كهلا و يافعا
                                                                            فدلّلته جدّا و أرضيته أبا
                                                                    و تخفق في قلبي قلوب عديدة
                                                                            لقد كان شعبا واحدا فتشعّبا
                                                                    ***
                                                                    و يا ربّ من أجل الطفولة وحدها
                                                                            أفض بركات السلم شرقا و مغربا
                                                                    و ردّ الأذى عن كلّ شعب و إن يكن
                                                                            كفورا و أحببه و إن كان مذنبا
                                                                    و صن ضحكة الأطفال يا ربّ إنّها
                                                                            إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا
                                                                    ملائك لا الجنّات أنجبن مثلهم
                                                                            و لا خلدها _ أستغفر الله _ أنجبا
                                                                    و يا ربّ حبّب كلّ طفل فلا يرى
                                                                            و إن لجّ في الإعنات وجها مقطّبا
                                                                    و هيّئ له في كلّ قلب صبابة
                                                                            و في كلّ لقيا مرحبا ثمّ مرحبا
                                                                    و يا ربّ : إنّ القلب ملكك إن تشأ
                                                                            رددت محيل القلب ريّان مخصبا
                                                                    ***
                                                                    و يا ربّ في ضيق الزّمان و عسره
                                                                            أرى الصّبر آفاقا أعزّ و أرحبا
                                                                    صليب على غمز الخطوب و عسفها
                                                                            و لولا زغاليل القطا كنت أصلبا
                                                                    و لي صاحب أعقيته من موّدتي
                                                                            و ما كان مجنون الغرور ليصحبا
                                                                    غريبان لكنّي وفي و ما وفى
                                                                            و نازع حبل الودّ حتّى تقضّبا
                                                                    و با ربّ هذي مهجتي و جراحها
                                                                            سيبقين إلاّ عنك سرّا محجّبا
                                                                    فما عرفت إلاّ قبور أحبّتي
                                                                            و إلاّ لداتي في دجى الموت غيّبا
                                                                    و ما لمت في سكب الدّموع فلم تكن
                                                                            خلقت دموع العين إلاّ لتسكبا
                                                                    و لكنّ لي في صون دمعي مذهبا
                                                                            فمن شاء عاناه و من شاء نكّبا
                                                                    ***
                                                                    و يا ربّ لأحزاني وضاء كأنّني
                                                                            سكبت عليهنّ الأصيل المذهّبا
                                                                    ترصّد نجم الصبح منهنّ نظرة
                                                                            و أشرف من عليائه و ترقّبا
                                                                    فأرخيت آلاف الستور كأنّني
                                                                            أمدّ على حال من النّور غيهبا
                                                                    فغوّر نجم الصّبح يأسا و ما أرى
                                                                            على طهره _ حتّى بنانا مخضّبا
                                                                    و قد تبهر الأحزان و هي سوافر
                                                                            و لكنّ أحلاهنّ حزن تنقّبا
                                                                    ***
                                                                    و يا ربّ : درب الحياة سلكته
                                                                            و ما حدت عنه لو عرفت المغيّبا
                                                                    و لي وطن أكبرته عن ملامة
                                                                            و أغليه أن يدعى _ على الذّنب مذنبا
                                                                    و أغليه حتّى قذ فتحت جوانحي
                                                                            أدلّل فيهنّ الرّجاء المخيّبا
                                                                    تنكّر لي عند المشيب _ و لا قلى _
                                                                            فمن بعض نعماه الكهولة و الصبا
                                                                    و من حقّه أن أحمل الجرح راضيا
                                                                            و من حقّه أن لا ألوم و أعتبا
                                                                    و ما ضقت ذرعا بالمشيب فإنّني
                                                                            رأيت الضحى كالسّيف عريان أشيبا
                                                                    يمزّق قلبي البعد عمّن أحبّهم
                                                                            و لكن رأيت الذلّ أخشن مركبا
                                                                    و أستعطف التاريخ ضنّا بأمّتي
                                                                            ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا
                                                                    و يا ربّ : عزّ من أميّة لا انطوى
                                                                            و يا ربّ : نور وهّج الشرق لا خبا
                                                                    و أعشق برق الشام إن كان ممطرا
                                                                            حنونا بسقياه و إن كان خلّبا
                                                                    و أهوى الأديم السّمح ريّان مخصبا
                                                                            سنابله نشوى و أهواه مجدبا
                                                                    مآرب لي في الرّبوتين و دمّر
                                                                            فمن شمّ عطرا شمّ لي فيه مأربا
                                                                    ***
                                                                    سقى الله عند اللاذقيّة شاطئا
                                                                            مراحا لأحلامي و مغنى و ملعبا
                                                                    و أرضى ذرى الطّود الأشمّ فطالما
                                                                            تحدّى و سامى كلّ نجم و أتعبا
                                                                    و جاد ثرى الشهباء عطرا كأنّه
                                                                            على القبر من قلبي أريق و ذوّبا
                                                                    و حيّا فلم يخطئ حماة غمامه
                                                                            وزفّ لحمص العيش ريّان طيّبا
                                                                    و نضّر في حوران سهلا و شاهقا
                                                                            و باكر بالنّعمى غنّيا و متربا
                                                                    و جلجل في أرض الجزيرة صيّب
                                                                            يزاحم في السّقيا و في الحسن صيّبا
                                                                    سحائب من شرق و غرب يلمّها
                                                                            من الريح راع أهوج العنف مفضبا
                                                                    له البرق سوط لا تندّ غمامة
                                                                            لتشرد إلاّ حزّ فيها و ألهبا
                                                                    يؤلفها حينا و تطفر جفّلا
                                                                            و حاول لم يقنط إلى أن تغلّبا
                                                                    أنخن على طول السماء و عرضها
                                                                            يزاحم منها المنكب الضخم منكبا
                                                                    فلم أدر هل أمّ السماء قطيعه
                                                                            من الغيم أو أمّ الخباء المطنّبا
                                                                    تبرّج للصحراء قبل انسكابه
                                                                            فلو كان للصحراء ريق تحلّبا
                                                                    و تعذر طلّ الفجر لم يرو صاديا
                                                                            و لكنّه بلّ الرّمال و رطّبا
                                                                    و يسكرها أن تشهد الغيم مقبلا
                                                                            و أن تتملاّه و أن تترقّبا
                                                                    كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا
                                                                            قليلا . نأى حتّى لقد عزّ مطلبا
                                                                    و يطمعها حتّى إذا جنّ شوقها
                                                                            إليه انثنى عن دربها و تجنّبا
                                                                    تعدّ ليالي هجره و سجيّة
                                                                            بكلّ مشوق أن يعدّ و يحسبا
                                                                    و يبده بالسقيا على غير موعد
                                                                            فما هي إلاّ لمحة وتصبّبا
                                                                    كذلك لطف الله في كلّ محنة
                                                                            و إن حشد الدّهر القنوط و ألّبا
                                                                    إلى أن جلاها كالكعاب تزيّنت
                                                                            لتحسد من أترابها أو لتخطبا
                                                                    ***
                                                                    و مرّت على سمر الخيام غمامة
                                                                            تجرّ على صاد من الرّمل هيدبا
                                                                    نطاف عذاب رشّها الغيم لؤلؤا
                                                                            وتبرا فما أغنى و أزهى و أعجبا
                                                                    حبت كلّ ذي روح كريم عطائها
                                                                            فلم تنس آراما و لم تنس أذؤبا
                                                                    و جنّت مهاة الرّمل حتّى لغازلت
                                                                            و جنّ حمام الأيك حتّى لشبّبا
                                                                    و طاف الحمام السمح في البيد ناسكا
                                                                            إلى الله في سقيا الظماء تقرّبا
                                                                    عواطل مرّ المزن فيهنّ صائغا
                                                                            ففضّض في تلك السّهول و ذهّبا
                                                                    و ردّ الرّمال السمر خضرا و حاكها
                                                                            سماء و أغناها و رشّ و كوكبا
                                                                    و ردّ ضروع الشاء بالدرّ حفّلا
                                                                            لترضع حملانا جياعا و تحلبا
                                                                    و حرّك في البيد الحياة و سرّها
                                                                            فما هامد في البيد إلا توثّبا
                                                                    و لا عب في حال من الرّمل ربربا
                                                                            و ضاحك في غال من الوشي ربربا
                                                                    و جمّع ألوان الضياء و رشّها
                                                                            فأحمر ورديّا و أشقر أصهبا
                                                                    و أخضر بين الأيك و البحر حائرا
                                                                            و أبيض بالوهج السماوي مشربا
                                                                    و لونا من السّمراء صيغت فتونه
                                                                            بياضا نعم لكن بياضا تعرّبا
                                                                    أتدري الرّبى أنّ السماوات سافرت
                                                                            لتشهد دنيانا فأغفلت على الربى
                                                                    ألمّ بكفي النجوم و أنتقي
                                                                            مزرّرها في باقتي و المعصّبا
                                                                    دياري و أهلي بارك الله فيهما
                                                                            و ردّ الرّياح الهوج أحنى من الصبا
                                                                    و أقسم أنّي ما سألت بحبّها
                                                                            جزاء و لا أغليت جاها و منصبا
                                                                    و لا كان قلبي منزل الحقد و الأذى
                                                                            فإنّي رأيت الحقد خزيان متعبا
                                                                    ***
                                                                    تغرّب عن مخضلّة الدوح بلبل
                                                                            فشرّق في الدنيا وحيدا و غرّبا
                                                                    و غمّس في العطر الإلهيّ جانحا
                                                                            و زفّ من النّور الإلهيّ موكبا
                                                                    تحمّل جرحا داميا في فؤاده
                                                                            و غنّى على نأي فأشجى و أطربا