أبعد نأي المليحة البخل - المتنبي
أبْعَدُ نأيِ المَليحَةِ البَخَلُ
                                                                            في البُعْدِ ما لا تُكَلَّفُ الإبلُ
                                                                    مَلُولَةٌ ما يَدومُ لَيسَ لَها
                                                                            مِنْ مَلَلٍ دائِمٍ بهَا مَلَلُ
                                                                    كأنّمَا قَدُّها إذا انْفَتَلَتْ
                                                                            سكرانُ من خمرِ طَرْفِها ثَمِلُ
                                                                    بي حَرُّ شَوْقٍ إلى تَرَشّفِها
                                                                            يَنفَصِلُ الصّبرُ حينَ يَتّصِلُ
                                                                    ألثّغْرُ والنّحْرُ والمُخَلْخَلُ والـ
                                                                            ـمِعْصَمُ دائي والفاحِمُ الرّجِلُ
                                                                    ومَهْمَهٍ جُبْتُهُ على قَدَمي
                                                                            تَعجِزُ عَنهُ العَرامِسُ الذُّلُلُ
                                                                    بصارِمي مُرْتَدٍ، بمَخْبُرَتي
                                                                            مُجْتَزِىءٌ، بالظلامِ مُشْتَمِلُ
                                                                    إذا صَديقٌ نَكِرْتُ جانِبَهُ
                                                                            لم تُعْيِنِي في فِراقِهِ الحِيَلُ
                                                                    في سَعَةِ الخافِقَينِ مُضْطَرَبٌ
                                                                            وفي بِلادٍ مِنْ أُخْتِها بَدَلُ
                                                                    وفي اعْتِمارِ الأميرِ بَدْرِ بنِ عَمّـ
                                                                            ـارٍ عَنِ الشّغلِ بالوَرَى شُغُلُ
                                                                    أصْبَحَ مالٌ كَمالِهِ لِذَوي الـ
                                                                            ـحاجَةِ لا يُبْتَدَا ولا يُسَلُ
                                                                    هَانَ عَلى قَلْبِهِ الزّمانُ فَما
                                                                            يَبينُ فيهِ غَمٌّ ولا جَذَلُ
                                                                    يَكادُ مِنْ طاعَةِ الحِمامِ لَهُ
                                                                            يَقْتُلُ من مَا دَنَا لَهُ الأجَلُ
                                                                    يَكادُ مِنْ صِحّةِ العَزيمَةِ مَا
                                                                            يَفْعَلُ قَبْلَ الفِعالِ يَنْفَعِلُ
                                                                    تُعْرَفُ في عَيْنِهِ حَقائِقُهُ
                                                                            كأنّهُ بالذّكاءِ مُكْتَحِلُ
                                                                    أُشْفِقُ عِندَ اتّقادِ فِكرَتِهِ
                                                                            عَلَيْهِ مِنها أخافُ يَشْتَعِلُ
                                                                    أغَرُّ، أعْداؤهُ إذا سَلِمُوا
                                                                            بالهَرَبِ استَكبَرُوا الذي فَعَلُوا
                                                                    يُقْبِلُهُمْ وَجْهَ كُلّ سابحَةٍ
                                                                            أرْبَعُها قَبلَ طَرْفِها تَصِلُ
                                                                    جَرْداءَ مِلْءِ الحِزامِ مُجْفِرَةٍ
                                                                            تكونُ مِثْلَيْ عَسيبِها الخُصَلُ
                                                                    إنْ أدْبَرَتْ قُلتَ لا تَليلَ لها
                                                                            أو أقبَلَتْ قلتَ ما لها كَفَلُ
                                                                    والطّعنُ شَزْرٌ والأرْضُ واجفةٌ
                                                                            كأنّما في فُؤادِها وَهَلُ
                                                                    قَدْ صَبَغَتْ خَدَّها الدّماءُ كمَا
                                                                            يَصبُغُ خَدَّ الخَريدَةِ الخَجَلُ
                                                                    والخَيْلُ تَبكي جُلُودُها عَرَقاً
                                                                            بأدْمُعٍ ما تَسُحّها مُقَلُ
                                                                    سارٍ ولا قَفْرَ مِنْ مَواكِبِهِ
                                                                            كأنّما كلّ سَبْسَبٍ جَبَلُ
                                                                    يَمْنَعُهَا أن يُصِيبَها مَطَرٌ
                                                                            شِدّةُ ما قَدْ تَضايَقَ الأسَلُ
                                                                    يا بَدْرُ يا بحْرُ يا غَمامَةُ يا
                                                                            لَيثَ الشّرَى يا حِمامُ يا رَجُلُ
                                                                    إنّ البَنَانَ الذي تُقَلّبُهُ
                                                                            عِندَكَ في كلّ مَوْضِعٍ مَثَلُ
                                                                    إنّكَ مِنْ مَعشَرٍ إذا وَهَبُوا
                                                                            ما دونَ أعمارِهمْ فَقد بخِلُوا
                                                                    قُلُوبُهُمْ في مَضاءِ ما امتَشَقُوا
                                                                            قاماتُهُمْ في تَمامِ ما اعْتَقَلُوا
                                                                    أنتَ نَقيضُ اسمِهِ إذا اختَلَفتْ
                                                                            قَواضِبُ الهِنْدِ والقَنَا الذُّبُلُ
                                                                    أنتَ لَعَمري البَدْرُ المُنيرُ ولكِـ
                                                                            ـنّكَ في حَوْمَةِ الوَغى زُحَلُ
                                                                    كَتيبَةٌ لَسْتَ رَبَّها نَفَلٌ
                                                                            وبَلْدَةٌ لَستَ حَلْيَها عُطُلُ
                                                                    قُصِدْتَ مِنْ شَرْقِها ومَغْرِبِها
                                                                            حتى اشتَكَتْكَ الرّكابُ والسُّبُلُ
                                                                    لم تُبْقِ إلاّ قَليلَ عافِيَةٍ
                                                                            قد وَفَدَتْ تَجتَديكَهَا العِلَلُ
                                                                    عُذْرُ المَلُومَينِ فيكَ أنّهُمَا
                                                                            آسٍ جَبَانٌ ومبْضَعٌ بَطَلُ
                                                                    مَدَدْتَ في راحَةِ الطّبيبِ يَداً
                                                                            فَما درَى كيفَ يُقطَعُ الأمَلُ
                                                                    إنْ يَكُنِ البَضْعُ ضَرّ باطِنَهَا
                                                                            فَرُبّما ضَرّ ظَهْرَها القُبَلُ
                                                                    يَشُقّ في عِرْقِها الفِصادُ ولا
                                                                            يَشقّ في عِرْقِ جُودِها العَذَلُ
                                                                    خامَرَهُ إذ مَدَدْتَها جَزَعٌ
                                                                            كأنّهُ مِنْ حَذاقَةٍ عَجِلُ
                                                                    جازَ حُدودَ اجتِهادِهِ فأتَى
                                                                            غَيرَ اجتِهادٍ، لأمّهِ الهَبَلُ
                                                                    أبْلَغُ ما يُطْلَبُ النّجاحُ به الـ
                                                                            ـطّبْعُ وعندَ التّعَمّقِ الزّلَلُ
                                                                    إرْثِ لهَا إنّها بمَا مَلَكَتْ
                                                                            وبالذي قَدْ أسَلْتَ تَنْهَمِلُ
                                                                    مِثْلُكَ يا بَدْرُ لا يَكونُ ولا
                                                                            تَصْلُحُ إلاّ لِمثْلِكَ الدّوَلُ