لولا تعنفني لقلت المنزل - البحتري
لَوْلاَ تُعَنّفُني لَقُلْتُ: المُنْزِلُ،
                                                                            مَعْنًى تُبَيِّنُهُ، وَمَغْنًى مُشْكِلُ
                                                                    وَبوَقْفَةٍ يَشْفِي غَلِيلَ صَبَابَةٍ،
                                                                            وَيَقُولُ صَبٌّ مَا أرَادَ وَيَفْعَلُ
                                                                    سَالَتْ مُقَدَّمَةُ الدّمُوعِ، وَخَلّفتْ
                                                                            حُرَقاً تَوَقَّدُ في الحَشَا، ما تَرحَلُ
                                                                    إنّ الفِرَاقَ، كَمَا عَلِمتَ، فخَلّني
                                                                            وَمَدَامِعاً تَسَعُ الفِرَاقَ، وَتَفْضُلُ
                                                                    إلاّ يَكُنْ صَبْرٌ جَميلٌ، فالهَوَى
                                                                            نَشْوَانُ يَجْمُلُ فيهِ مَا لاَ يَجمُلُ
                                                                    يا دارُ! لا زَالَتْ رُبَاكِ مَجُودَةً،
                                                                            منْ كلّ سَادِيَةٍ، تَعِلُّ وَتَنْهَلُ
                                                                    أَذْكَرْتِِنَا دُوَلَ الزّمَانِ وَصَرْفَهُ،
                                                                            وأرَيْتِنَا كَيْفَ الخُطُوبُ النُّزَّلُ
                                                                    أصَبَابَةً بِرُسُومِ رَامَةَ، بَعدَمَا
                                                                            عَرَفَتْ مَعَارَِفها الصَّبَا والشّمْألُ
                                                                    وَسألتُ مَنْ لا يَستَجِيبُ فكنتُ في اسْـ
                                                                            ـتِخْبَارِهِ كَمُجِيبِ مَنْ لا يَسألُ
                                                                    ألْيَوْمَ أُطْلِعَ للخِلاَفَةِ سَعْدُها،
                                                                            وأضَاءَ فيهاِ بَدْرُهَا المُتَهَلِّلُ
                                                                    لَبِسَتْ جَلاَلَةَ جَعْفَرٍ، فكَأنّها
                                                                            سَحَرٌ تَحَلَّلَهُ الصَّباحُ المُقْبِلُ
                                                                    جَاءَتْهُ طَائِعَةً، وَلَمْ يُهْزَزْ لَهَا
                                                                            رُمْحٌ، وَلَمْ يُشْهَرْ عَلَيْها مُنْصُلُ
                                                                    أنّى، وَقَدْ كَانتَ تّلَفُ نحوَهُ،
                                                                            مِنْ قَبلِ أنْ يَقَعَ القَضاءُ، فتُعقَلُ
                                                                    حتّى أتَتْهُ يَقُودُها استِحْقَاقُهُ،
                                                                            وَيَسُوقُهَا حَظٌّ إلَيْهِ مُقْبِلُ
                                                                    عَنْ بَيْعَةٍ، إلاّ تَكُنْ عَقِبِيّةً،
                                                                            فَهيَ التي رَضِيَ الكِتَابُ المُنْزَلُ
                                                                    لَمْ تَنْصَرِفْ عَنها النّفُوسُ وَلَم تَزِغْ
                                                                            فيها القُلُوبُ، وَلَم تَزِلّ الأرْجُلُ
                                                                    مَسَحُوا أكُفَّهُمُ بِكَفّ خَلِيفَةٍ،
                                                                            نَجَمَتْ بدَوْلَتِهِ، الحُقُوقُ الأُفَّلُ
                                                                    وَكَفَتْهُمُ الشّورَى شَوَاهِدُ أعرَبتْ
                                                                            عَن أمرِهِ، وَفَضِيلَةٍ مَا تَشْكُلُ
                                                                    فَكأَنَّما الدُّنْيَا هُنالِكَ رَوضَةٌ
                                                                            راحتْ جَوانِبُها تُراحُ وتُوبَلُ
                                                                    أو َمَا تَرَى حُسنَ الزّمانِ، وَمَا بَدا،
                                                                            وأعَادَ في أيّامِهِ المُتَوَكّلُ
                                                                    أشرَقْنَ حَتّى كَادَ يُقْتَبَسُ الدّجَى،
                                                                            وَرَطِبْنَ حَتّى كَادَ يَجْري الجَنْدَلُ
                                                                    مِنْ بَعْدِما اسوَدّ الزَّمانُ المُنْتَضَى
                                                                            فينا، وَجَفّ لَنا الثّرَى المُتَبَلّلُ
                                                                    ألله سَهّلَ بِالخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ،
                                                                            مِنْ دَهْرِنَا، ما لمْ يَكُنْ يَتَسَهّلُ
                                                                    مَلِكٌ أذَلَّ المُعتَدينَ بِوَطْأةٍ،
                                                                            تَرْسُو على كَتِدِ النّفَاقِ، وَتَثْقُلُ
                                                                    إنْ كَلّ صَرْفُ الدّهْرِ لمْ يَكْلُل، وإن
                                                                            غَفِلَ الرّبيعُ، فَجُودُهُ لا يَغفُلُ
                                                                    نَفْسٌ مُشَيَّعَةٌ، وَرَأيٌ مُحصَدٌ،
                                                                            وَيَدٌ مُؤيَّدَةٌ، وَقَوْلٌ فَيصَلُ
                                                                    وَلَهُ، وإنْ غَدَتِ البِلادُ عَرِيضَةً،
                                                                            طَرْفٌ بأطْرافِ البِلاَدِ مُوَكَّلُ
                                                                    إسْلَمْ أمِيرَ المُؤمِنينَ لِسُنّةٍ
                                                                            أحْيَيْتَهَا، والنّاسُ حَيْرَى ضُلَّلُ
                                                                    وَرَعِيّةٍ أحْسَنْتَ رَعْيَ سَوَامِهَا،
                                                                            حتّى غَدَتْ والعَدْلُ فيها مَهْمُلُ
                                                                    ألله يَشكُرُ مِنْكَ سعْياً صَادِقاً
                                                                            في حِفْظِهَا، ثمّ النّبيّ المُرْسَلُ
                                                                    فَضْلُ الخَلائِفِ بالخِلاَفَةِ واقِفٌ
                                                                            في الرّتْبَةِ العُلْيَا، وَفَضْلُكَ أفضَلُ
                                                                    أَوفيت عَاشِرهُمْ، فإنْ نُدِبُوا إلى
                                                                            كَرَمٍ وإحْسَانٍ، فأنْتَ الأوّلُ
                                                                    وَغَدَوْتَ في بُرْدِ النّبيّ وَهَدْيِهِ
                                                                            تُرجَى لِحُكْمٍ قَاصِدٍ، وَتُؤمَّلُ