عذيري من صرف الليالي الغوادر - البحتري
عَذيرِيَ مِنْ صَرْفِ اللّيالي الغَوَادِرِ،
                                                                            وَوَقْعِ رَزَايَا كالسّيُوفِ البَوَاتِرِ
                                                                    وَسَيْرِ النّدَى، إذْ بَانَ مِنّا مُوَدِّعاً،
                                                                            فَلاَ يَبْعَدَنْ مِنْ مُستَقِلٍّ، وَسائِرِ
                                                                    أجِدَّكَ ما تَنْفَكُّ تشكُو قَضِيّةً،
                                                                            تُرَدُّ إلى حُكْمٍ، من الدّهْرِ، جائرِ
                                                                    يَنَالُ الفَتَى مَا لَمْ يُؤمِّلْ، وَرُبّما
                                                                            أتاحَتْ لَهُ الأقْدَارُ ما لَمْ يُحَاذِرِ
                                                                    عَلى أنّهُ لا مُرْتَجًى كَمُحَمّدٍ،
                                                                            وَلاَ سَلَفٌ، في الذّاِهبِينَ، كطاهِرِ
                                                                    سَحَابَا عَطاءٍ مِنْ مُقيمٍ وَمُقْلِعٍ،
                                                                            وَنَجْمَا ضِيَاءٍ مِنْ مُنِيفٍ وَغَائِرِ
                                                                    فَلِلّهِ قَبْرٌ في خُرَاسَانَ أدْرَكَتْ
                                                                            نَوَاحِيهِ أقْطَارَ العُلا والمآثِرِ
                                                                    تُطَارُ عَرَاقِيبُ الجِيَادِ إزَاءَهُ،
                                                                            وَيُسْقَى صُباباتِ الدّماءِ المَوَائِرِ
                                                                    مُقيمٌ بأدْنَى أبْرَشَهْرَ، وَطَوْلُهُ
                                                                            عَلَى قَصْوِ آفَاقِ البِلادِ الظّوَاهِرِ
                                                                    جَرَى دونَهُ العَصرَانِ تسفي تُرابَها،
                                                                            عليه أعَاصِيرُ الرِّيَاحِ الخواطِرِ
                                                                    سقى جَودُه جَودَ الغمامِ ومن رأى
                                                                            حَيا ماطرا تَسقيهِ ديمَةُ ماطِرِ
                                                                    صوائب مزن تغتدي من شبائه
                                                                            لأخلاقه في جودها ونظائر
                                                                    يصبن على عَهْدٍ، من الدّهْرِ، صالحٍ،
                                                                            تَقَضّى، وَفَيْنَانٍ، من العَيشِ ناضرِ
                                                                    فتًى، لمْ يُغِبّ الجُودَ رِقْبَةَ عاذِلٍ،
                                                                            وَلَمْ يُطفىءِ الهَيجاءَ خوْفَ الجَرائرِ
                                                                    وَلَمْ يُرَ يَوْماً قادِراً غَيرَ صافِحٍ،
                                                                            وَلاَ صافِحاً عَنْ زِلّةٍ غَيرَ قادِرِ
                                                                    أحَقّاً بأنّ اللّيْثَ بَعْدَ ابْتِزَازِهِ
                                                                            نُفُوسَ العِدى مِنْ شاسعٍ وَمُجاوِرِ
                                                                    مُخِلٌّ بتَصرِيفِ الأعِنّةِ، تارِكٌ
                                                                            لِقَاءَ الزُّحُوفِ، واقتِيَادَ العَسَاكِرِ
                                                                    وَمُنْصَرِفٌ عَنِ المَكَارِمِ والعُلا،
                                                                            وَقَدْ شَرَعتْ فوْتَ العُيونِ النّواظِرِ
                                                                    كأنْ لَمْ يُنِفْ نَجدَ المَعَالي، وَلَمْ تُغِرْ
                                                                            سَرَاياهُ في أرْضِ العَدُوّ المُغاوِرِ
                                                                    وَلَمْ يَتَبَسّمْ للعَطَايا، فتَنْبَرِي
                                                                            مَوَاهِبُ أمْثَالُ الغُيُوثِ البَواكِرِ
                                                                    وَلَمْ يَدّرِعْ وَشْيَ الحَديدِ، فيَلْتَقي
                                                                            على شابِكِ الأنْيَابِ شَاكِي الأظافِرِ
                                                                    عَلَى مَلِكٍ ما انْفَكّ شَمسَ أسِرّةٍ،
                                                                            تُعَارُ بهِ ضَوْءاً، وَبَدْرَ مَنَابِرِ
                                                                    أزَالَتْ حِجَابَ المُلْكِ عَنْهُ رَزِيئَةٌ،
                                                                            تُهَجِّمُ أخْيَاسَ الأُسُودِ الخَوَادِرِ
                                                                    مُسَلَّطَةٌ لمْ يتئر لوُقُوعِها
                                                                            بِساعٍ، وَلَمْ يُنْجَدْ عَلَيْها بِنَاصِرِ
                                                                    يُؤسّى الأداني عَنهُ، أن لَيسَ عندَهُمْ
                                                                            نَكِيرٌ، سوَى سَكْبِ الدّموعِ البَوَادِرِ
                                                                    مُبَكًّى بشَجْوِ الأكْرَمِينَ، تَسَلّبتْ
                                                                            عَلَيْهِ أعِزّاءُ المُلُوكِ الأكَابِرِ
                                                                    تَخَوّنَهُ خَطْبٌ تَخَوّنَ قَبْلَهُ
                                                                            حُسَينَ النّدَى والسّؤدَدِ المُتَوَاتِرِ
                                                                    عَميدا خُرَاسَانَ انبرَى لَهُما الرّدى،
                                                                            بعامِدَتَينِ مِنْ صُنُوفِ الدّوَائِرِ
                                                                    بَني مُصْعَبٍ هلْ تُقرِنُونَ لحادثِ الـ
                                                                            ـنَوَائِبِ، أوْ تُغْنَوْنَ حَتفَ المَقَادِرِ
                                                                    وَهَلْ في تَمادي الدّمعِ رَجعٌ لذاهبٍ
                                                                            إذا فاتَ، أو تَجديدُ عَهدٍ لداثِرِ
                                                                    وَهَلْ ترَكَ الدّهرُ الحسينَ بنَ مُصْعَبٍ،
                                                                            فيَبْقَى على الدّهْرِ الحُسينُ بنُ طاهرِ
                                                                    وَما أبْقَتِ الأيّامُ وَجْداً لِوَاجِدٍ،
                                                                            كمَا أنّهَا لم تُبْقِ صَبراً لصَابِرِ
                                                                    أسًى كَثُرَتْ حتّى اطمأنّ لها الجَوَى،
                                                                            وأرْزَاءُ فَجعٍ قَدْحُها في الضّمائِرِ