توهم ليلى وأظعانها - البحتري
تَوَهَّمَ لَيْلَى وأظعَانَهَا،
                                                                            ظِبَاءَ الصّرِيمِ، وَغِزْلاَنَهَا
                                                                    بَرَزْنَ عَشِيّاً، فقُلْتُ استَعَرْ
                                                                            نَ كُثْبَ السَّرَاةِ، وَقُضْبَانَهَا
                                                                    وأسْرَيْنَ لَيْلاً، فخِلْنَا بهِـ
                                                                            ـنّ مَثنى النّجومِ ووُحْدانَهَا
                                                                    صَوادِفُ، جَدّدنَ، بعدَ الهَوى،
                                                                            مِطَالَ الدّيُونِ وَلِيّانَها
                                                                    جَحَدْنَ جَديدَ الهَوَى، بعدَما
                                                                            عَرَفْنَ الصّبَابَةَ، عِرْفَانَهَا
                                                                    وَكنتُ أمرَأً لم أزَلْ تابِعاً
                                                                            وِصَالَ الغَواني، وَهِجْرَانَها
                                                                    أُحِبُّ، عَلى كلّ ما حَالَةٍ،
                                                                            إسَاءَةَ لَيْلَى، وإحْسَانَهَا
                                                                    أرَاكِ، وإنْ كنتِ ظَلاّمَةً،
                                                                            صَفِيّةَ نَفْسِي، وخُلْصََانَهَا
                                                                    ويُعْجِبُني فِيكِ أَنْ أَسْتَدِيمَ
                                                                            صَبَابَاتِ نَفْسِي وأَشْجَانَها
                                                                    وَمَا سَرّني أنّ قَلبي أُعِيرَ
                                                                            عَزَاءَ القُلُوبِ وَسُلْوَانَهَا
                                                                    سرَى البَرْقُ يَلمَعُ في مُزْنَةٍ،
                                                                            تَمُدُّ إلى الأرْضِ أشْطَانَها
                                                                    فَلا تَسألَنْ باستِواءِ الزّمانِ،
                                                                            وَقد وافتِ الشّمسُ مِيزَانَها
                                                                    شَبيبَةَ لَهْوٍ تَلَقّيْتَهَا،
                                                                            فَسَايَرْتَ بالرّاحِ رَيْعانَهَا
                                                                    وَلاَ أرْيَحيّةَ، حتّى تُرَى
                                                                            طَرُوبَ العَشِيّاتِ، نَشْوَانَهَا
                                                                    وَلَيْسَتْ مُداماً، إذا أنتَ لمْ
                                                                            تُوَاصِلْ مَعَ الشَّرْبِ إدْمَانَهَا
                                                                    وكَمْ بالجَزِيرَةِ مِنْ رَوْضَةٍ،
                                                                            تُضَاحِكُ دِجْلَةَ ثُغْبَانَهَا
                                                                    تُرِيكَ البَواقِيتَ مَنْثُورَةً،
                                                                            وَقَدْ جَلّلَ النَّوْرُ ظُهْرَانَهَا
                                                                    غَرَائبُ تَخطَفُ لحظَ العُيونِ،
                                                                            إذا جَلّتِ الشّمْسُ ألْوَانَهَا
                                                                    إذا غَرّدَ الطّيرُ فيها، ثَنَتْ
                                                                            إلَيْكَ الأَغانيُّ ألْحَانَها
                                                                    تَسِيرُ العَمَارَاتُ أيْسَارَهَا،
                                                                            وَيَعْتَرِضُ القَصْرُ أيْمَانَهَا
                                                                    وَتَحْمِلُ دِجلَةَ حملَ الجَمُوحِ،
                                                                            حَتّى تُنَاطِحَ أرْكَانَهَا
                                                                    كأنّ العَذَارَى تَمَشّى بِهَا،
                                                                            إذا هَزّتِ الرّيحُ أفْنَانَهَا
                                                                    تُعَانقُ للقُرْبِ شَجْرَاؤهَا
                                                                            عِنَاقَ الأحِبّةِ أسْكَانَهَا
                                                                    فَطَوْراً تُقَوِّمُ مِنْهَا الصَّبَا،
                                                                            وَطَوْراً تُمَيِّلُ أغْصَانَهَا
                                                                    جَنُوحٌ، تُنَقّلُ أفْيَاءَهَا،
                                                                            كَمَا جَرّتِ الخَيْلُ أرْسَانَهَا
                                                                    رِبَاعُ أخي كَرَمٍ مُغْرَمٍ
                                                                            بأنْ يَصِلَ الدّهْرُ غِشْيَانَهَا
                                                                    ألُوفُ الدّيَارِ، فإنْ أجمَعَ التّرَحّـ
                                                                            ـلُ حَرّمَ إيطَانَهَا
                                                                    إذا هَمّ لمْ يَختَلجْ عَزْمَهُ
                                                                            مَقَاصِيرُ يَعْتَادُ إكْنَانَهَا
                                                                    مُطِلٌّ عَلى بَغَتَاتِ الأُمُورِ،
                                                                            عَبَا للمُلِمّاتِ أقْرَانَهَا
                                                                    تُعِدُّ المُوَالي لَهُ نَصْرَهَا،
                                                                            وَتُولي المُعَادِينَ خِذْلاَنَهَا
                                                                    وَتَحتَاطُ مِنْ شَفَقٍ حوْلَهُ،
                                                                            كَمَا حَاطَتِ العَينُ إنْسَانَهَا
                                                                    نقيُّ السّرابيلِ قد أوضحتْ
                                                                            طريقَتُهُ القَصْدُ بُرهَانَهَا
                                                                    تَوَلُّى الأُمُورَ فَمَا أخْفَرَ الـ
                                                                            ـأمَانَةَ فيها، وَلاَ خَانَهَا
                                                                    يَبِيتُ عَلَى الفَيْءِ مِنْ عِفَّةٍ
                                                                            رَهِيفَ الجَوَانِحِ طَيَّانَها
                                                                    إذا فُرَصُ المَجْدِ عَنّتْ لَهُ،
                                                                            تَغَنّمَ بالحَزْمِ إمْكَانَهَا
                                                                    وَذي هِمّةٍ، قلتُ: لا تَلتَمِسْ
                                                                            عُلاهُ لِتَبْلُغَ أعْنَانَهَا
                                                                    وَخَلِّ الجِبَالَ، فَلاَ قُدْسَهَا
                                                                            أطَقْتَ ولا اسطَعْتَ ثَهلانَها
                                                                    مَوَارِيثُ مِنْ شَرَفٍ لم يُضِعْ
                                                                            بِنَاهَا، وَلَمع يَطّرِحْ شَانَهَا
                                                                    إذا انْتَحَلَ القَوْمُ أسمَاءَها،
                                                                            وَجَدْنَاهُ مُلّكَ أعْيَانَهَا
                                                                    سَتُثْني بآلائِكَ الصّالِحا
                                                                            تِ مَدائحُ أسلَفْتَ أثْمَانَهَا
                                                                    على اليُمْنِ يَسّرْتَ، لليَعْمَلا
                                                                            تِ، عُرَاهَا وللخَيلِ فُرْسانَهَا
                                                                    ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أطرُقَنّ
                                                                            قُصُورَ البَليخِ، وأفْدانَهَا
                                                                    وَهَلْ أرَيَنّ عَلى حَاجَةٍ
                                                                            صَوَامِعَ زَكَّى، وَرُهْبَانَهَا
                                                                    وَهَلْ أطْلُعَنّ على الرَّقّتَينِ
                                                                            بخَيْلٍ أُخَايِلُ سَرْعَانَهَا
                                                                    مَشُوقٌ تَذَكّرَ أُلاّفَهُ،
                                                                            وَنَفْسٌ تَتَبّعُ أوْطَانَهَا