أما الخيال فإنه لم يطرق - البحتري
أمّا الخَيالُ، فإنّهُ لمْ يَطْرُقِ،
                                                                            إلاّ بعُقْبِ تَشَوّفٍ، وَتَشَوّقِ
                                                                    قد زَارَ مِنْ بُعدٍ، فَبَرَّدَ من حشاً
                                                                            ضَرِمٍ، وَسَكّنَ من فُؤادٍ مُقْلَقِ
                                                                    وَلَرُبّما كانَ الكَرَى سَبَباً لَنَا،
                                                                            بَعدَ الفِرَاقِ، إلى اللّقاءِ، فنَلتَقي
                                                                    مُتَذاكرَانِ على البِعَادِ، فَما يني
                                                                            يُهْدي الغَرَامَ مُغَرِّبٌ لمُشَرِّقِ
                                                                    صَدَقَتْ محَاسِنُهُ، فصَارَتْ فتنةً
                                                                            للنّاظِرينَ، وَوَعْدُهُ لمْ يَصْدُقِ
                                                                    أأُفيقُ مِنْ شَجَنٍ لعَقْلي خَابِلٍ،
                                                                            وَأصُدُّ عَنْ سَكَنٍ بقَلبيَ مُلصَقِ
                                                                    قد رَابَني هَرَبُ الشّبابِ، وَرَاعني
                                                                            شَيْبٌ يَدُبُّ بَياضُهُ في مَفرِقي
                                                                    إمّا تَرَيّني قد صَحوْتُ من الصّبَا،
                                                                            وَمَشَيتُ في سَننِ المُبلّ المُفْرِقِ
                                                                    وَذَكرْتُ ما أخذَ المَشيبُ فأرْسلتْ
                                                                            عَيْنايَ وَاكِفَ ديمَةٍ مُغرَوْرِقِ
                                                                    فَلَقَدْ أرَاني في مَخيلَةِ عَاشِقٍ،
                                                                            حسنِ المكانةِ، في الحِسانِ مُعشَّقِ
                                                                    أَغْدُو فأَسْحَبُ في البِطاَلِةِ مِئْزَرِي،
                                                                            وكَذَاكَ مَنْ يُصْبِحْ بِبَثٍّ يُغْبقِ
                                                                    إن كنتَ ذا عزْمٍ فشأنُكَ وَالسُّرَى،
                                                                            قَصْدَ الإمامِ على عِتاقِ الأيْنُقِ
                                                                    لا تَرْهَبَنَّ دُجَى الحَنادِسِ، بعدما
                                                                            صُدِعَتْ خِلاَفَتُهُ بِنورٍ مُشْرِقِ
                                                                    لله مُعْتَمِدٌ عَلى الله اكتَفَى
                                                                            بالله، وَالرّأيِ الأصِيلِ الأوْثَقِ
                                                                    لَهِجٌ بإصْلاحِ الأُمورِ، يَرُوضُها
                                                                            تَدْبيرُهُ في مَنْهَجٍ مُستَوسِِقِ
                                                                    مَلِكٌ تَدينُ لهُ المُلوكُ، وَتَقتَدي
                                                                            لُجَجُ البِحارِ بسَيْبِهِ المُتَدَفِّقِ
                                                                    فَرَعَى سَوَادَ المُسلِمينَ بِنَاظِرٍ
                                                                            مُتَفَقِّدٍ، وَحِياطِ صَدْرٍ مُشفِقِ
                                                                    أوْفَى فأضْمَرتِ القُلوبُ مَهَابَةً
                                                                            لِمُوقَّر اللَّحظَات فَخْمِ المَنْطِقِ
                                                                    وَتَهَلّلَتْ، للرَّاغِبِينَ، أسِرّةٌ،
                                                                            يَضْحكنَ في وَجهٍ كثيرِ الرّوْنَقِ
                                                                    يَتَقَيّلُ المُعتَزُّ فَضْلَ جُدودِهِ،
                                                                            بخِلالِ مَحمودِ الخِلالِ، مُرَفَّقِ
                                                                    وَيَظَلُّ يُخشَى في الإلَهِ، وَيُتّقى
                                                                            فيهِ، كما يخشَى الإلهَ وَيَتّقي
                                                                    ضَرْبٌ كنَصْلِ السّيفِ أُرْهفَ حدُّه
                                                                            وَأضَاءَ لامعُ رَأيِهِ المُتَرقرِقِ
                                                                    وَمُهَذَّبُ الأخلاقِ يَعْطِفُهُ النَّدى
                                                                            عطْفَ الجَنوبِ مِنَ القضِيبِ المورِقِ
                                                                    طَلْقٌ، فإنْ أبدى العُبوسَ تطأطأتْ
                                                                            شُوسُ الرّجالِ وَخَفّضَتْ في المَنطق
                                                                    مُتَغَمِّدٌ يَهَبُ الذّنوبَ، وَعهدُها
                                                                            لمْ يَستَطِلْ، وَجديدُها لم يُخلِقِ
                                                                    يَغشَى العُيونَ النّاظرَاتِ، إذا بَدا
                                                                            قَمَرٌ، مَطالِعُهُ رِباعُ الجَوْسَقِ
                                                                    ألله جارُكَ تَبتَغي، ما تَبتَغي،
                                                                            في المَكرُماتِ، وَتَرْتَقي ما تَرْتَقي
                                                                    فلَقَد وَليتَ فكنتَ خيرَ مُجَمِّعٍ،
                                                                            إذْ كانَ مَنْ ناوَاكَ شَرَّ مُفَرِّقِ
                                                                    وَلَقَدْ رَدَدْتَ النّائباتِ ذَميمَةً،
                                                                            وَفسَحتَ من كَنَفِ الزّمانِ الضّيّقِ
                                                                    وَعَفَوْتَ عَفواً عَمَّ أُمّةَ أحْمَدٍ
                                                                            في الغرْبِ من أوْطانِهمْ وَالمَشرِقِ
                                                                    وَلقَد رَددتَ على الأنامِ عُقُولُهمْ
                                                                            بهَلاكِ سُلطانِ الرّكيكِ، الأحمقِ
                                                                    وَالقَوْمُ خَرْقى ما تُطُلِّبَ رُشدهمْ
                                                                            وَأُديرَ أمرُهُمُ بعَزْمةِ أخْرَقِ
                                                                    كَيفَ اهتِداءُ الرّكبِ في ظَلمائهم
                                                                            وَدَليلُهُمْ مُتَخَلِّفٌ لمْ يَلْحَقِ
                                                                    أوْلَتْكَ آرَاءُ المَوَالي نُصرَةً،
                                                                            بسُيوفُهُمْ، وَالمُلكُ جِدُّ مُمزَّقِ
                                                                    مِنْ ناصِرٍ بحُسَامِهِ وَمُخَذِّلٍ
                                                                            عَنكَ العَدوَّ برَأيهِ المُستَوْسِقِ
                                                                    كلٌّ رَضِي، وَأرَى ثَلاثَتهم كُفوا
                                                                            قَسْرَ المُمانِعِ، وَافتِتاحَ المُغلَقِ
                                                                    لهُمُ احتياطُ المُعتَني وَمُقاوِمِ الـ
                                                                            ـكَافي، وَرَفرَفةُ النّصِيحِ المُشفِقِ
                                                                    فاسلَمْ لهمْ، وَليَسلَموا لك، إنّهمْ
                                                                            لكَ جُنّةٌ مِنْ كلّ خَطبٍ مُوبِقِ
                                                                    سَبْتٌ، وَنَوْرُوزٌ، وَنجدَةُ سيّدٍ،
                                                                            ما شَابَ بَهجَةَ خُلْقِهِ بتَخَلّقِ
                                                                    وَأرَى البِساطَ وَفي غَرَائبِ نَبتِهِ،
                                                                            ألوَانُ وَرْدٍ، في الغصُونِ، مُفَتَّقِ
                                                                    شَجَرٌ على خُضْرٍ تَرِفُّ غُصُونُهُ
                                                                            مِنْ مُزْهِرٍ، أوْ مُثمِرٍ، أوْ مُورِقِ
                                                                    وَكأنّ قَصرَ السّاجِ خُلّةُ عاشقٍ،
                                                                            بَرَزَتْ لِوَامِقِها بوَجْهٍ مُونِقِ
                                                                    قَصْرٌ، تكامَلَ حُسنُهُ في قَلْعَةٍ
                                                                            بَيضَاءَ، وَاسطَةٍ لبَحرٍ مُحدِقِ
                                                                    داني المَحَلّ، فلا المَزَارُ بشاسِعٍ
                                                                            عَمّنْ يَزُورُ، وَلا الفِناءُ بضَيّقِ
                                                                    قَدّرْتَهُ تَقْديرَ غَيرِ مُفَرِّطٍ،
                                                                            وَبَنَيْتَهُ بُنْيانَ غَيرِ مُشَفِّقِ
                                                                    وَوَصَلْتَ بَينَ الجَعفَرِيّ وَبَيْنَهُ،
                                                                            بالنّهْرِ يحمِلُ مِن جُنوبِ الخَندَقِ
                                                                    نَهرٌ، كأنّ المَاءَ، في حُجُراتِه،
                                                                            إفْرِنْدُ مَتْنِ الصّارِمِ المُتَألِّقِ
                                                                    فإذا الرّياحُ لَعِبنَ فيهِ بَسَطنَ من
                                                                            مَوْجٍ علَيهِ مُدَرَّجٍ، مُترَقرِقِ
                                                                    ألِحقْهُ، يا خَيرَ الوَرَى بمَسيلِهِ،
                                                                            وَامدُدْ فُضُولَ عُبَابِهِ المُتَدَفِّقِ
                                                                    فإذا بَلَغتَ بهِ البَديعَ، فإنّمَا
                                                                            أنزَلْتَ دِجلَةَ في فِنَاءِ الجَوْسقِ
                                                                    للمِهْرَجَانِ يَدٌ بِما أوْلاهُ مِنْ
                                                                            هَطَلانِ وَسميّ السّحابِ المُغدِقِ
                                                                    ما إنْ تَرَى إلاّ تَعَرُّضَ مُزْنَةٍ
                                                                            مُخضَرّةٍ، أوْ عارِضٍ مُتألِّقِ
                                                                    فاسعَدْ، أميرَ المُؤمنينَ، مُمَتَّعاً
                                                                            بالعِزّ ما عَمَرَ الزّمانُ، وَما بَقي
                                                                    هَلْ أطلُعَنّ على الشّآمِ مُبَجَّلاً،
                                                                            في عزّ دَوْلَتِكَ الجَديدِ المُونِقِ
                                                                    فأرُمَّ خَلّةَ ضَيعَةٍ تَصِفُ اسمَها،
                                                                            وَأُلِمَّ ثَمّ بصِيبَةٍ لي دَرْدَقِ
                                                                    شَهْرَانِ، إنْ يَسّرْتَ إذني فيهما،
                                                                            كَفِلا بأُلفَةِ شَمْليَ المُتَفَرِّقِ
                                                                    قد زَادَ في شَوْقي الغَمامُ وَهاجني
                                                                            زَجَلُ الرّوَاعِدِ تحتَ لَيلٍ مُطرِقِ
                                                                    لمّا استَطارَ البرْقُ قُلتُ لنائِلٍ:
                                                                            كَيفَ السّبيلُ إلى عِنانٍ مُطلَقِ